روحانية صائم
قصص من ذاقوها !!
أما القسم الثاني من هذا الدرس:
مشاعر هذه الروح وهو تصوير لمشاعر وأحاسيس وروحانيات وأشجان لمن ذاق حلاوة الإيمان، وطعم الصلة بالله برمضان، وعرف حقيقة الصيام، وهى للجميع؛ فلا يختص بها الرجال دون النساء، ولا الكبار دون الصغار، لعل الله أن ينفع بها الجميع؛ فإن من ذاق طعم الشيء حرص عليه وتمسك فيه، ومن ذاق طعم الإيمان بذل من أجله النفس والنفيس.
تعالوا لنسمع أفراح الروح وهى تسرى في القلب، فتتلذذ بالصيام والقيام والصدقة وقراءة القرآن والتوبة والغفران، تعالوا لأفراح الروح لنسمع أفراح الروح في شهر رمضان كيف تعيش تلك الروح.
فهذا صائم يحاول التعبير عن هذه الروحانية فيقول: "في نهار يوم من أيام رمضان؛ اشتد بي الجوع فيبس لساني، وقرصت الشفتان وغارت العينان، فنظرت من يميني فإذا أصناف الطعام؛ وعن شمالي أنواع الشراب، فذكرت قول الله عز وجل في الحديث القدسي؛ ترك طعامه وشرابه من أجلى، فرق قلبي ودمعت عيني وانتابني شعور جميل له حلاوة لا أستطيع وصفه ولا بيانه.. قلت؛ لعله أثر من أثار الإخلاص في هذه العبارة العظيمة ولكن من أنا، عبد من عبيده، فقير إليه ذليل بين يديه، من أنا فيخاطبني وهو العظيم الجليل ذو الجبروت والملكوت ،،ترك طعامه وشرابه من أجلي،، من أنا حتى يخاطبني بقوله؛ (من أجلي) فأتلُ قوله؛ (من أجلي) رقة وشفافية عجيبة، بهذه الرقة وبهذه الشفافية وبهذا الإيناس نسيت جوعي وتعبي؛ فأي مشقة في الصوم في ظل هذا الود والقرب من السيد لعبده؛ فشعرت بحرص واطمئنان وثقة ويقين بالقرب من الله جل وعلا".
قلب فؤادك في محاسن شرعنا *** تلقى جميع الحسن فيه مصـورا
كم من معانٍ في صيام بيننا *** نفح أرق من النسيم إذا سرى
نهراً تفجرا أحمدياً كوثرَ *** وانظر لفرق صيامهم وصيامنا
فدهشت بين جماله وجلاله *** وغدا لسان الحال عني مخبرا
لو أن كل الحسن أكمل صوره *** ورآه كان مهللا ومكبرا
وهذه المشاعر متصدق صائم قال فيها؛ "في رمضان؛ الصدقة لها طعم خاص ولذة عجيبة، ولا غرو فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،،كان أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان،، أخذت عهداً على نفسي أن لا يمر يوماً من رمضان إلا ولى فيه نصيب من الصدقة والإحسان؛ فقليل دائم خير من كثير منقطع؛ وبعد صولات وجولات بين بيوت الأرامل واليتامى والفقراء والمحتاجين لا يعلم بي أحد إلا الله؛ شعرت برقة في قلبي، ولذة عجيبة في نفسي، فعرفت حقيقة الصيام، وأحسست بقرصة الجوع والحرمان، وقفت على أرملة لها صبية صغار وبيتهم بالإيجار ودموع غزار، ربما عبث الهم بقلبها ففضلت الموت على الحياة، أو سلكت طريق البغاة، عندها تبين لي قول الرسول صلى الله عليه وسلم؛ القائم على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل أو الصائم النهار،، كما فى البخارى ومسلم، وجلست مع اليتيم فنظرت في عينيه، فكأنه يسألني عن أبويه، ولماذا هو ليس كغيره من الصغار معهم الألعاب والحلوى والطعام، وهل سأشتري له ثوباً جديداً ليلبسه في العيد؟ فمسحت بيدي على رأس اليتيم، فإذا بقلبي يلين ودمعي يسيل؛ فذكرت قول الحبيب صلى الله عليه وسلم في المسند من حديث أبى هريرة؛ أن رجلاً شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه، فقال له صلى الله عليه وسلم؛ إن أردت تليين قلبك فأطعم المسكين وامسح على رأس اليتيم،،"
هكذا نحيا رمضان، فهو مدرسة تستثير الشفقة، وتحض على الصدقة، وهو شهر يعلمنا الجود والإحسان، ليس فقط في رمضان بل والله على الدوام؛ "وما تنفقوا من خير فلأنفسكم".
حدثني أحد الأخوة بكلام عجيب كان له وقع في نفسي، قال أنه قرأ للشعبي رحمة الله كلاماً جميلاً قال فيه: "من ير نفسه إلى ثواب الصدقة أحوج من الفقير إلى صدقته فقد أبطل صدقته وضرب بها وجهه"، فما تركت بعدها صدقة، فأنا الفقير وأنا المحتاج؛ نعم والله أنا الفقير إلى عفو ربى، وأنا المحتاج إلى غفران الله جل وعلا لنفسي، كان ابن عمر رضى الله عنهما؛ "يصوم ولا يفطر إلا مع المساكين، فإذا منعه أهله عنهم لم يتعشى تلك الليلة"، وجاء سائل إلى الإمام أحمد؛ "فرفع إليه رغيفين كان يعدهما لفطره ثم نام جائعاً، ثم أصبح صائماً"، وعُلم أن عائشة رضى الله عنها أم المؤمنين؛ "أنفقت في يوم واحد 100 ألف درهم وهى صائمة، فقالت لها خادمتها؛ لو أبقيت لنا ما نفطر به اليوم، فقالت عائشة؛ لو ذكرتني لفعلت".
سبحان الله! ما هذه الروحانية العجيبة، وما هذا السمو المذهل في النفس الصائمة، حتى أنها تنسى حاجتها ومطالبها وكأنها لا تذكر إلا أمتها وحاجات الفقراء أو المحتاجين.
حديث التائبين
أما حديث التائبين وخاصة في شهر التوبة فعجيب غريب، واسمع هذا التائب في رمضان وهو يحاول أن يصف فرحته وسعادته فيقول: "ما أجمل رمضان وما أحسن أيامه، سبحان الله! كل هذه اللذة وهذه الحلاوة ولم أذق طعمها إلا هذا العام، أين هي عيني كل هذه السنوات؟؟ إيه.. بل أين أنا عنها، فإن من تحر الخير يعطه، ومن بحث عن الطريق وجده، ومن أقبل على الله أعانه.. صدق الله في الحديث القدسي؛ من تقرب منى شبراً تقريب منه ذراعا،، كما فى الصحيحين، سبحان الله! أشعر أن حملاً ثقيلاً زاح عن صدري؛ وأشعر بانشراح فسيح في نفسي، أول مرة في حياتي أفهم تلك الآية التي أسمعها تقرأ في مساجدنا؛ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء،، أين ذلك الضيق؟ وتلك الهموم التي كانت تكتم نفسي حتى أكاد اصرع؟ أين تلك الهواجس والأفكار والوساوس؟ أين شبح الموت الذي كان يلاحقني فيفسد علي المنام؟ إنني أشعر بسرور عجيب، وبصدر رحيب، وبقلبي لين دقيق، أريد أن ابكي! أريد أن أناجى ربى واعترف له بذنبي، لقد عصيت وأذنبت وصليت وتركت وأسررت وجاهرت وأبعدت وقربت وشرقت وغربت وسمعت وشاهدت..
ويح قلبي من تناسيه مقامي يوم حشري
واشتغالي عن خطايا أثقلت والله ظهري
ليتني اقبل وعظي ليتني اسمع زجــري
والله لولا الحياء ممن بجواري لصرخت بأعلى صوتي؛ أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فأغفر لي فإنه لا يغفر الذنب إلا أنت،، لسان حالي يقول للإمام؛ لماذا قطعت علي حلاوة المناجاة يا إمام! لماذا رفعت من السجود فحرمتني من لذة الاعتراف والافتقار للواحد القهار؛ يا إمام أريد أن أبكى فأنا لم أبكى منذ أعوام..
ألا يا عين وحيك أسعديني
بطول الدمع في ظلم الليالي
لعلك في القيامة أن تفوزي
بخير الدهر في تلك العلالـي
يا إمام أسمعني القرآن، فلقد مللت ملاهي الشيطان؛ يا إمام لماذا يذهب رمضان وفيه عرفنا الرحمن وأقلعنا عن الذنب والعصيان!!
في صيام الشهر طب ليس يبديه طبيب
فيــه أسرار يعيها صائم حقاً أريب
فيه غيث من صفاء ترتوي فيه القلوب
فيه للأرواح شفع دونه الكون الرحيب
صائم في درع تقوى تجلي عنه الكروب
ما أحلاك يا رمضان.. ما أجملك.. سأشغل أيامك ولياليك، بل ساعاتك وثوانيك.. كيف لا وقد وجدت نفسي فيك!! أليس في الحديث؛ رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم أنسلخ قبل أن يغفر له،، كما في الترمذي وقال حسن غريب.
إذا هجع النُّوام أسبلت عبرتي
وأنشدت بيتاً وهو من الصَفِ الشعر
أليس من الخسران أن لياليا
تمر بلا علم وتحسب من عمري؟
يا معشر العاصين؛ لا بأس من قلب خُمِّر وجُمِّر وقُسّي وتبلَّد، فإنه يمكن أن تدب فيه الحياة، ويمكن أن يشرق فيه النور، ويمكن أن يخشع لذكر الله، فنحن في شهر رمضان.. شهر التوبة والغفران؛ شهر تصفيد الشياطين وفتح أبواب الجنان وإغلاق أبواب النيران، والله يحي الأرض بعد موتها فتنبت وتزهر..
يا معشر التائبين..
تعالوا كل من حضر لنطرق بابه سحرا *** ونبكى كلنا أسفاً على من بات قد هجرا
كيف نصنع إذا نودي بالرحيل وما تأهبنا؟ ألسنا الذين بارزنا بالكبائر وما راقبنا؟ يا معشر المذنبين.. لنبسط لسان الاعتذار، ونظهر العجز والافتقار، وليردد كل واحد منا..
إلهي لئن خبْتُ وطردتني فمن *** ذا الذي أرجو ومن ذا أشفّع
إلهي لئن أعطيت نفسي سؤلها *** منها أنا في روض الندامة أرتع
إلهي ترى حالي وفقرى وفاقتي *** وأنت مناجاتي الخفية تسمع
إلهي فلا تقطع رجائي ولا تزغ *** فؤادي فلي في جل جودك مطمع
إلهي أجرني من عذابك إنني *** أسير ذليلاً خائفاً لك أخضع
إلهي لئن جلت وجمت خطيئتي *** فعفوك من ذنبي أجل وأوسع
انتهى كلامه..
فقلت؛ سبحان الله! في رمضان رياح الأسحار تحمل أنين المذنبين وأنفاس المحبين وقصص التائبين ورحم الله مطرف بقوله: "اللهم أرض عنا فإن لم ترض عنا فاعف عنا"، وهذا مودع لرمضان ذاق طعمه وعرف حلاوته؛ وهاهو يتحسر على فراقه فيقول: "في الأيام الأخيرة في رمضان، شعرت بتسارع الأنفاس، وكثرت الهاجس والوسواسة، أعنى أن أمسك الشمس فلا تزول، لا أصدق أن رمضان سيرحل بعد أيام، لقد ذقت حلاوة الصيام ولذة القيام، لقد وقفت مع الصالحين وركعت مع الراكعين وسجدت مع الساجدين، بالأمس كنت أذرف دموع الفرح لاستقباله، واليوم تسيل دموع الحزن لرحيل هلاله.. آه لرمضان؛ فقد هيم نفسي ويتم قلبي.. تلاقينا وكأنها لحظات.. وتناجينا وكأنها همسات.. فمن منا لا تؤلمه ساعات الفراق ومن منا يحتمل لحظات العناق.. رمضان أيها الحبيب ترفق.. دموع المحبين تدفق.. قلوبهم من ألم الفراق تشقق.. رمضان أطفأت أنوار المساجد.. وتفرق الراكع والساجد.. رمضان هل أنا مقبول أم مطرود؟؟ وهل تعود أيامك أو لا تعود؟؟ وإن عادت هل أنا في الوجود أم في اللحود؟؟ سأعان الأحزان وأبث الأشجان، وسأرسل العبرات والزفرات والآهات؛ فربما هذه آخر ليلة منك يا رمضان.. ولا أدرى أنا رابح فيك أن خسران!!
يا رب إن فراق الخل عذبني
وأورث النفس آلاما وأحزانا
وأذهب العين حتى صار ناظرها
يقول: وحيك قد تلقاه عمياناً
ألقاه أعمى ولكن لا يفارقنــي
يبقى وتبقى معاً في القلب سكنانا
يا رب رد غريباً في ظل وجهتـه
يقلب الطرف بين الناس حيرانا
يبيت يبكى ويصحو باكيا أبداً
قد جرب الحزن أشكالاً وأواناَ
في يوم العيد !!
وأخيراً هذه مشاعر مسلم في صبيحة العيد فيقول: "تذكرت في صبيحة العيد وأنا أقبل أولادي يتامى لا يجدون من يقبلهم أو حتى يبتسم لهم.. تذكرت في صبيحة العيد وأنا مع زوجي أيامى لا يجدن حنان الزوج ورقته.. تذكرت في صبيحة العيد ونحن على الطعام الطيب والشراب البارد الجموع التي تموت من الجوع.. تذكرت في صبيحة العيد وأنا ألبس الجديد.. ذلك الذي لا يجد ما يستر به عورته، وربما غطى بالأوراق والجلود سوءته.. تذكرت في صبيحة العيد وقد اجتمع شملنا وأنسنا بآبائنا وأمهاتنا، إخوانا لنا شردتهم الحروب، لا راحة ولا استقرار ولا أمن ولا آمان فعيدهم دموع وأحزان وذكريات وأشجان، جالت في خاطري هذه الذكريات.. ومع ذلك لبست الجديد، وزرت القريب والبعيد، وأكلت وشربت وابتسمت ومازحت؛ لكن شعور الجسد الواحد وشعور الإخاء قوى في نفسي؛ لا أنساهم في حديثي؛ وان ضحكت تبدو مسحة الحزن على وجهي.. يهيج بالدعاء لهم لساني؛ وأحدث عنهم أهلي وجيراني؛ وفى صحيح مسلم؛ مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى و بالسهر،، ومن عمل صالحاً فلنفسه،، ومن علت همته أتصف بكل جميل، ومن دنت همته اتصف بكل خلق رذيل..
سأصرف همتي بالكل عما *** نهاني الله من أمر المزاح
إلى شهر الخشوع مع الخشوع *** إلى شهر العفاف مع الصلاح
يجازى الصائمون إذا استقاموا *** بدار الخلد والحور الملاح
وبالغفران من رب عظيم *** وبالملك الكبير بلا براح
فيا أحبابنا اجتهدوا وجدوا *** بهذا الشهر من قبل الرواح
عسى الرحمن أن يمحوا ذنوبي *** ويغفر زلتي قبل افتضاحِ
الخاتمة
أيها الأحبة؛
هكذا نحيا رمضان، عندما نفهم حقيقة الصيام ونشعر بحلاوة الإيمان، هذه الأحاسيس الجميلة والمشاعر النبيلة، هذه الروحانية السنوية، ما هي إن شاء الله إلا عاجل بشرى المؤمن، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقاءه، وفتح لهم أبواب في دار العمل فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواه لطلبها والمسابقة إليها، أما الحلاوة الحقيقية فيكفى قول الحق عز جل؛ "فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاءاً بما كانوا يعملون"..
أيها المسلمون:
هلموا إلى دار لا يموت سكانها.. نحن في رمضان موسم الخيرات؛ فهلموا إلى دار لا يموت سكانها؛ ولا يخرب بنيانها؛ ولا يهرم شبانها؛ ولا يتغير حسنها وإحسانها؛
هوائها النسيم.. يتقلب أهلها في رحمة أرحم الراحمين.. ويتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم كل حين.. دعواهم فيها؛ سبحانك اللهم، وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.
وطعامهم ما تشتهيه نفوسهم
ولحوم طير ناعم قسمان
وفواكه شتى بحسب مناهم
يا شبعة كملت لذي الإيمان
لحم وخمر والنسا وفواكه
والطيب مع روح ومع ريحان
وصحافهم ذهب تطوف عليهم
بأكف خدام من الولدان
نسأل الله الكريم من فضله العظيم أن يبلغنا جنة الفردوس، اللهم إنا نسألك جنة الفردوس برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المسلمون:
أكرموا هذا الوافد الكريم.. استقبلوه بالتوبة الصادقة والرجوع إلى الله؛ أروا الله من أنفسكم في هذا الشهر المبارك.. فإن لله نفحات من حرمها فقد حرم خيراً كثيراً، جاهدوا أنفسكم؛ أخلصوا النية لله في الاستعداد له؛ فربما قطع هادم اللذات تلك الأماني فبلغ صاحبها بنيته ما لم يبلغه بعمله.. كم من إخواننا الذين كانوا يخططون لشهر رمضان وعمل الخيرات فيه، وقد حملناهم على الأكتاف ودفناهم تحت الأحداث لكنهم بلغوا إنشاء الله بنياتهم.
تم بحمد الله
كتبها مجموعة من طالبات كلية الشريعة - الكويت
إشراف د.طارق الطواري
المصدر شبكة القصيم الثقافية
صيد الفوائد
إبراهيم الدويش